فصل: قال البيضأوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة المدثر صلى الله عليه وسلم:
{يا أيها المدثر}
وزنه متفعل ومعناه الذي تدثر في كساء أو ثياب وتسميته بذلك كتسميته بالمزمل، حسبما ذكرنا في موضعه. وقال السهيلي: في ندائه بالمدثر ثلاثة فوائد: الاثنتان اللتان ذكرتا في المزمل وفائدة ثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير، والنذير بالثياب ضد هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب التشمير، وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن: والصحيح أن سورة اقرأ نزلت قبلها {قُمْ فأنذِرْ} أي أنذر الناس وهذه بعثة عامة {وربّك فكبِّرْ} أي عظِّمه، ويحتمل أن يريد قوله: الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا: بم نفتتح صلاتنا فنزلت: وربك فكبر وقول: وربك فكبر: من المقلوب الذي يقرأ طردا وعكسا من أوله وآخره {وثِيابك فطهِّرْ} فيه ثلاثة أقوال، أحدها أنه حقيقة في تطهير الثياب من النجاسة، واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون إزالة النجاسة واجبة، أو على الندب فتكون سنة، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب، فالثياب على هذا مجاز، الثالث: أن معناه لا تلبس الثياب من مكسب خبيث {والرجز فاهجر} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجز الأوثان، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول عائشة، والآخر: أن {الرِجز} السخط والعذاب وهذا أصله في اللغة فمعناه اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، الثالث: أنه المعاصي والفجور، قال بعضهم: كل معصية رِجز {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} يحتمل قوله: {تمنن} أن يكون العطاء أو بمعنى المنّ وهو ذكر العطاء وشبهه، أو بمعنى الضعف فإن كان بمعنى العطاء ففيه وجهان، أحدهما: أن معناه لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه، قال بعضهم: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمّته، والآخر: لا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقلُ ما يُعطي وإنْ كثيرا، وإن كان من المنّ بالشيء ففيه وجهان:
الأول: {لا تمنن} على الناس بنبوتك {تستكثر} بأجر أو مكسب تطلبه.
الثاني: {لا تمنن} على الله بعملك {تستكثر} أعمالك وتقع لك بها إعجال، وإن كان من الضعف فمعناه لا تضعف عن تبليغ الرسالة وتستكثر ما حملناك من ذلك {ولِربِّك فاصبر} أي اصبر لوجهه وطلب رضاه، ويحتمل أن يريد الصبر على المكاره والمصائب، أو على إذاية الكفار له، أو على العبادة {فإِذا نُقِر فِي الناقور} يعني نُفخ في الصور، ويحتمل أن يريد النفخة الأولى والثانية.
{ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا} هذا وعيد وتهديد، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة باتفاق، وفي معنى {وحِيدا} ثلاثة أقوال:
أحدها: روي أنه كان يلقب الوحيد، أي لا نظير له في ماله وشرفه، وكونه وحيدا نعمة عددها الله عليه.
الثاني: أن معناه خلقته منفردا ذليلا.
الثالث: أن معناه خلقته وحدي، فوحيدا على هذا من صفة الله تعالى.
وإعرابه على هذا حال من الضمير الفاعل في قوله: {خلقت}، وهو على القولين الأولين حال من الضمير المفعول {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} أي كثيرا، واختلف في مقداره فقيل: ألف دينار، وقيل عشرة آلاف دينار، وقيل: يعني الأرض لأنها مدت {وبنِين شُهودا} أي حضورا، ورُوي أنه كان له عشرة من الأولاد، وقيل: ثلاث عشرة لا يفارقونه. وأسلم منهم ثلاثة وهم: خالد وهشام وعمار {ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} أي بسطت له في الدنيا بالمال والقوة وطيب العيش {ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، وهذا غاية الحرص {كلاّ} زجر عما طمع فيه من الزيادة {عنِيدا} أي معاندا مخالفا، والآيات هنا يراد بها القرآن لأن الوليد قال فيه: إنه سحر، ويحتمل أن يريد الدلائل {سأُرْهِقُهُ صعُودا} الصعود العقبة الصعبة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنها عقبة في جهنم، كلما صعدها الإنسان ذاب ثم يعود، فالمعنى سأشق عليه بتكليفه الصعود فيها».
{إِنّهُ فكّر وقدّر} أي فكر فيما يقول، وقدر في نفسه ما يقول في القرآن أي: هيّأ كلامه، روي أن الوليد سمع القرآن فأعجبه وكاد يسلم، ودخل إلى أبي بكر الصديق فعاتبه أبو جهل، وقال له: إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في كلام محمد قولا يرضيهم، فافتتن وقال: أفعل ذلك، ثم فكر فيما يقول في القرآن فقال: أقول شعر؟ ما هو شعر، أقول كهانة ما هو بكهانة، أقول إنه سحر وإنه قول البشر ليس منزلا من عند الله {فقُتِل كيْف قدّر} دعاء عليه وذم، وكرره تأكيدا لذمه وتقبيح حاله، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه استحسان منزعه الأول حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: قتل، لا يراد به الدعاء عليه، وإنما هو كقولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه، يريدون التعجب من حاله واستعظام وصفه، وقاله الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه على طريقة الاستهزاء أو حكاية لقول قريش تهكما بهم {ثُمّ نظر} أي نظر في قوله: {ثُمّ عبس وبسر} البسور هو تقطيب الوجه هو أشد من العبوس، وفعل ذلك من حسده للنبي صلى الله عليه وسلم أي عبس في وجهه عليه الصلاة والسلام، أو عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول {ثُمّ أدْبر} أي أعرض عن الإسلام {سِحْرٌ يُؤْثرُ} أي ينقل عمن تقدم.
{ومآ أدْراك ما سقرُ} تعظيم لها وتهويل {لا تُبْقِي ولا تذرُ} مبالغة في وصف عذابها، أي لا تدع غاية من العذاب إلا أذاقته إياها أو لا تبقي شيئا ألقي فيها إلا أهلكته وإذا أهلك لم تذره هالكا بل يعود للعذاب {لواحةٌ لِّلْبشرِ} معنى لواحة: مغيِّرة، يقال: لوحه السفر إذا غيره والبشر جمع بشرة وهي الجلدة، فالمعنى أنها تحرق الجلود وتسودها. وقيل: لواحة من لاح إذا ظهر، والبشر الناس أي تلوح للناس، وقال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام.
{عليْها تِسْعة عشر} يعني الزبانية خزنة جهنم، فقيل: هم تسعة عشرة ملكا، وقيل: تسعة عشر صفا من الملائكة، والأول أشهر.
{وما جعلْنآ أصْحاب النار إِلاّ ملائِكة} سبب الآية أنه لما نزل {عليْها تِسْعة عشر} [المدثر: 30] قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشرة أن يبطشوا به، فنزلت الآية ومعناها أنهم ملائكة لا طاقة لكم بهم، ورُوي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لِّلّذِين كفرُواْ} أي جعلناهم هذا العدد ليفتتن الكفار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم ويقولون ما قالوا {لِيسْتيْقِن الذين أوتُواْ الكتاب} أن ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم حق، فإن قيل: كيف نفى عنهم الشك بعد أن وصفهم باليقين والمعنى واحد، وهو تكرار؟ فالجواب: أنه لما وصفهم باليقين نفى عنهم أن يشكوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال، وقال الزمخشري: ذلك مبالغة وتأكيد {ولِيقول الذين فِي قُلوبِهِم مّرضٌ} المرض عبارة عن الشك، وأكثر ما يطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين.؟ فإن قيل: هذه السورة مكية ولم يكن حينئذ منافقون وإنما حدث المنافقون بالمدينة، فالجواب من وجهين؛ أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا، ففيه إخبار بالغيب، والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك. وقولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلا: استبعاد لأن يكون هذا من عند الله {وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلاّ هو} يحتمل القصد بهذا وجهين؛ أحدهما وصف جنود الله بالكثرة أي: هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله، والآخر رفع اعتراض الكفار على التسعة عشر أي لا يعلم أعداد جنود الله إلا هو؛ لأن منهم عددا قليلا ومنهم عددا كثيرا حسبما أراد الله {وما هِي إِلاّ ذكرى لِلْبشرِ} الضمير لجهنم أو للآيات المتقدمة.
{كلاّ} ردع للكفار عن كفرهم، وقال الزمخشري: هي إنكار لأن تكون لهم ذكرى {إِذْ أدْبر} أي ولى وقرئ {دبر} بغير ألف والمعنى واحد. وقيل: معناه دبر الليل والنهار أي جاء في دبره {والصبح إِذآ أسْفر} أي أضاء، ومنه الإسفار بصلاة الصبح {إِنّها لإِحْدى الكبر} الضمير لجهنم، أو للآيات والنذارة أي هي من الأمور العظام، والكبر جمع كبرى وقال ابن عطية: جمع كبيرة والأول هو الصحيح {نذِيرا لِّلْبشرِ} تمييز أو حال من إحدى الكبر وقيل: النذير هنا الله، فالعامل فيه على هذا محذوف. وهذا ضعيف، وقيل: هو حال من هذه السورة أي قم فأنذر نذيرا وهذا بعيد، قال الزمخشري: هو من بدع التفاسير {لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده، ولمن شاء بدل من البشر أي هم متمكنون من التقدم والتأخر، وقيل: معناه الوعيد كقوله: {فمن شاء فلْيُؤْمِن ومن شاء فلْيكْفُرْ} [الكهف: 29] وعلى هذا أعرب الزمخشري {أن يتقدم} مبتدأ و{لمن شاء} خبره والأول أظهر {رهِينةٌ} قال ابن عطية: الهاء في {رهينة} للمبالغة أو على تأنيث النفس. وقال الزمخشري: ليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي بمعنى الرهن، أي كل نفس رهن عند الله بعملها {إِلاّ أصْحاب اليمين} أي أهل السعادة فإنهم فكوا رقابهم بأعمالهم الصالحة، كما فكّ الراهن رهنه بأداء الحق وقال عليّ بن أبي طالب: أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها، وقال ابن عباس: هم الملائكة {يتساءلون عنِ المجرمين} أي سأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين الذين في النار {ما سلككُمْ فِي سقر} أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين، يحتمل أن خاطبهم به المسلمون أو الملائكة فأجابوهم بقولهم: {لمْ نكُ مِن المصلين} وما بعده، أي هذا الذي أوجب دخولهم النار، وإنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيما له لأنه أعظم جرائمهم {نخُوضُ} الخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه {حتى أتانا اليقين} هو الموت عند المفسرين وقال ابن عطية: إنما يقين الذي أرادوا ما كانوا يكذبون في الدنيا، فيتيقنونه بعد الموت {فما تنفعُهُمْ شفاعةُ الشافعين} إنما ذلك لأنهم كفار، وأجمع العلماء أنه لا يشفع أحد في الكفار، وجمع الشافعين دليل على كثرتهم كما ورد في الآثار، تشفع الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين.
{فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} يعني كفار قريش {كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} المستنفرة بفتح الفاء التي استنفرها الفزع، وبالكسر بمعنى النافرة، شبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام ويعني حمر الوحش. {فرّتْ مِن قسْورةٍ} قال ابن عباس: القسورة الرماة وقال أيضا هو: الأسد، وقيل: أصوات الناس، وقيل: الرجال الشداد، وقيل: سواد أول الليل {بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} المعنى: يطمع كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتابا من الله، ومعنى منتشرة: منشورة غير مطوية أي طرية كما كتبت لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لا نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء فيه من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر بتباعك {كلاّ} ردع عما أرادوه {بل لاّ يخافُون الآخرة} أي هذه هي اللعة والسبب في إعراضهم {كلاّ} تأكيد للردع الأول أو ردع عن عدم خوفهم الآخرة {إِنّهُ تذْكِرةٌ} الضمير لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته {فمن شاء ذكرهُ} فاعل شاء ضمير يعود على من، وفي ذلك حض وترغيب وقيل: الفاعل هو الله ثم قيد فعل العبد بمشيئة الله {هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} أي هو أهل لأن يُتّقى لشدة عقابه، وهو أهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته وفضله. اهـ.

.قال البيضأوي:

سورة المدثر صلى الله عليه وسلم:
مكية.
وآيها خمس وخمسون آية.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيها المدثر} أي المتدثر وهو لابس الدثار. «روي أنه عليه الصلاة والسلام قال كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، فنزل جبريل وقال: {يأيُّها المدثر}».
ولذلك قيل هي أول سورة نزلت. وقيل تأذى من قريش فتغطى بثوبه مفكرا، أو كان نائما مدثرا فنزلت، وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية، أو المختفي فإنه كان بحراء كالمختفي فيه على سبيل الاستعارة، وقرئ {المدثر} أي الذي دثر هذا الأمر وعصب به.
{قُمِ} من مضجعك أو قم قيام عزم وجد. {فأنذِرْ} مطلق للتعميم أو مقدر بمفعول دل عليه قوله: {وأنذِرْ عشِيرتك الأقربين} أو قوله: {وما أرسلناك إِلاّ كافّة لّلنّاسِ بشِيرا ونذِيرا} {وربّك فكبّرْ} وخصص ربك بالتكبير وهو وصفه بالكبرياء عقدا وقولا «روي أنه لما نزل كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيقن أنه الوحي» وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والفاء فيه وفيما بعده لإِفادة معنى الشرط وكأنه قال: وما يكن فكبر ربك، أو الدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإن أول ما يجب معرفة الصانع وأول ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه، والقوم كانوا مقرين به.
{وثِيابك فطهّرْ} من النجاسات فإن التطهير واجب في الصلوات محبوب في غيرها، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة بتقصيرها مخافة جر الذيول فيها، وهو أول ما أمر به من رفض العادات المذمومة، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة والأفعال الدنيئة، فيكون أمرا باستكمال القوة العملية بعد أمره باستكمال القّوة النظرية والدعاء إليه، أو فطهر دثار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر.
{والرجز فاهجر} فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك وغيره من القبائح، وقرأ يعقوب وحفص {والرجز} بالضم وهو لغة كالذكر.
{ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} أي لا تعط مستكثرا، نهى عن الاستفزاز وهو أن يهب شيئا طامعا في عوض أكثر، نهي تنزيه أو نهيا خاصا به لقوله عليه الصلاة والسلام «المستفزز يثاب من هبته» والموجب له ما فيه من الحرص والضنة، أو{لا تمْنُن} على الله تعالى بعبادتك مستكثرا إياها، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه، وقرئ {تسْتكْثِرُ} بالسكون للوقف أو الإبدال من {تمنن} على أنه من بكذا، أو{تسْتكْثِرُ} بمعنى تجده كثيرا وبالنصب على إضمار أن، وقد قرئ بها وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بحذفها وإبطال عملها، كما روي: أحضر الوغى.
بالرفع.
{ولِربّك} لوجهه أو أمره. {فاصبر} فاستعمل الصبر، أو فاصبر على مشاق التكاليف وأذى المشكرين.
{فإِذا نُقِر} نفخ. {فِى الناقور} في الصور فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت، والفاء للسببية كأنه قال: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم، و(إذا) ظرف لما دل عليه قوله: {فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ على الكافرين} لأن معناه عسر الأمر على الكافرين، وذلك إشارة إلى وقت النقر، وهو مبتدأ خبره {يوْمٌ عسِيرٌ} و{يوْمئِذٍ} بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير: فذلك الوقت وقت وقوع {يوْمٌ عسِيرٌ}. {غيْرُ يسِيرٍ} تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه ويشعر بيسره على المؤمنين.
{ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا} نزلت في الوليد بن المغيرة، و{وحِيدا} حال من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه، أو من التاء أي ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، أو من العائد المحذوف أي من خلقته فريدا لا مال له ولا ولد، أو ذم فإنه كان ملقبا به فسماه الله به تهكما، أو إرادة أنه وحيد ولكن في الشرارة أو عن أبيه فإنه كان زنيما.
{وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} مبسوطا كثيرا أو ممدا بالنماء، وكان له الزرع والضرع والتجارة.
{وبنِين شُهودا} حضورا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش استغناء بنعمته، ولا يحتاج إلى أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه، أو في المحافل والأندية لوجاهتهم واعتبارهم. قيل كان له عشرة بنين أو أكثر كلهم رجال، فأسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.
{ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى لقب ريحانة قريش والوحيد أي باستحقاقه الرياسة والتقدم.
{ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} على ما أوتيه وهو استبعاد لطمعه أما لأنه لا مزيد على ما أوتي، أو لأنه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم ولذلك قال: {كلاّ إِنّهُ كان لآياتنا عنِيدا} فإنه ردع له عن الطمع وتعليل للردع على سبيل الاستئناف بمعاندة آيات المنعم المناسبة لإزالة النعمة المانعة عن الزيادة، قيل: ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتى هلك.
{سأُرْهِقُهُ صعُودا} سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. وعنه عليه الصلاة والسلام «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» {إِنّهُ فكّر وقدّر} تعليل أو بيان للعناد، والمعنى فكر فيما يخيل طعنا في القرآن وقدر في نفسه ما يقول فيه.
{فقُتِل كيْف قدّر} تعجب من تقديره استهزاء به، أو لأنه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه من قولهم: قتله الله ما أشجعه، أي بلغ في الشجاعة مبلغا يحق أن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. روي أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {حم} (السجدة)، فأتى قومه وقال (لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإِنس والجن، إن له لحلأوة وإن عليه لطلأوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى). فقالت قريش صبأ الوليد فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فناداهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا، فقالوا لا فقال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، ففرحوا بقوله وتفرقوا عنه متعجبين منه.
{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى وفيما بعد على أصلها.
{ثُمّ نظر} أي في أمر القرآن مرة بعد أخرى.
{ثُمّ عبس} قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا ولم يدر ما يقول، أو نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطب في وجهه. {وبسر} اتباع لعبس.
{ثُمّ أدْبر} عن الحق أو الرسول عليه الصلاة والسلام. {واستكبر} عن اتباعه.
{فقال إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ} يروى ويتعلم، والفاء للدلالة على أنه لما خطرت هذه الكلمة بباله تفوه بها من غير تلبث وتفكر.
{إِنْ هذا إِلاّ قول البشر} كالتأكيد للجملة الأولى ولذلك لم يعطف عليها.
{سأُصْلِيهِ سقر} تفخيم لشأنها وقوله تعالى: {وما أدْراك ما سقرُ} تفخيم لشأنها وقوله: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم والمعنى لا تبقي على شيء يلقى فيها ولا تدعه حتى تهلكه.
{لواحةٌ لّلْبشرِ} أي مسودة لأعالي الجلد، أو لائحة للناس وقرئت بالنصب على الاختصاص.
{عليْها تِسْعة عشر} ملكا أو صنفا من الملائكة يلون أمرها، والمخصص لهذا العدد أن اختلال النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثنتي عشرة والطيعية السبع، أو أن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإقرار، أو العمل أنواعا من العذاب تناسبها على كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك، أو صنف أو أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة في الصلاة فيبقى تسعة عشر قد تصرف فيما يؤاخذ به بأنواع من العذاب يتولاها الزبانية، وقرئ {تِسْعة عشر} بسكون العين كراهة توالي حركات فيها هو كاسم واحد و{تسعة أعشر} جمع عشير كيمين وأيمن، أي تسعة كل عشير جمع يعني نقيبهم أو جمع عشر فتكون تسعين.
{وما جعلْنا أصحاب النار إِلاّ ملائكة} ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقون لهم ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوى الخلق بأسا وأشدهم غضبا لله. روي أن أبا جهل لما سمع عليها تسعة عشر قال لقريش: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فنزلت. {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لّلّذِين كفرُواْ} وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر تنبيها على أنه لا ينفك منه وافتتانهم به استقلالهم واستهزاؤهم به واستبعادهم أن يتولى هذه العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين، ولعل المراد الجعل بالقول ليحسن تعليله بقوله: {لِيسْتيْقِن الذين أوتُواْ الكتاب} أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم.
{ويزْداد الذين ءامنُواْ إيمانا} بالإِيمان به وبتصديق أهل الكتاب به. {ولا يرْتاب الذين أوتُواْ الكتاب والمؤمنون} أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإِيمان به وبتصديق أهل الكتاب له. {ولا يرْتاب الذين أوتُواْ الكتاب والمؤمنون} أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإِيمان ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة. {ولِيقول الذين في قُلوبِهِم مّرضٌ} شك أو نفاق، فيكون إخبارا بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة. {والكافرون} الجازمون في التكذيب. {ماذا أراد الله بهذا مثلا} أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، وقيل لما استبعدوه حسبوا أنه مثل مضروب. {كذلِك يُضِلُّ الله من يشاء ويهْدِى من يشاء} مثل ذلك المذكور من الإِضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين. {وما يعْلمُ جُنُود ربّك} جموع خلقه على ما هم عليه. {إِلاّ هو} إِذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة. {وما هِى} وما سقر أو عدة الخزنة أو السورة. {إِلاّ ذكرى لِلْبشرِ} إلا تذكرة لهم.
{كلاّ} ردع لمن أنكرها، أو إنكار لأن يتذكروا بها. {والقمر}.
{واليل إِذْ أدْبر} أي أدبر كقبل بمعنى أقبل، وقرأ نافع وحمزة ويعقوب وحفص {إِذا دبر} على المضي.
{والصبح إِذا أسْفر} أضاء.
{إِنّها لإِحْدى الكبر} أي لإِحدى البلايا الكبر أي البلايا الكبر كثيرة و{سقر} واحدة منها، وإنما جمع كبرى على (كبر) إلحاقا لها بفعله تنزيلا للألف منزلة التاء كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع، والجملة جواب القسم أو تعليل ل {كلاّ}، والقسم معترض للتأكيد.
{نذِيرا لّلْبشرِ} تمييز أي {لإِحْدى الكبر} إنذارا أو حال عما دلت عليه الجملة أي كبرت منذرة، وقرئ بالرفع خبرا ثانيا أو خبرا لمحذوف.
{لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} بدل من {لّلْبشرِ} أي نذيرا للمتمكنين من السبق إلى الخير والتخلف عنه، أو{لِمن شاء} خبر ل {أن يتقدّم} فيكون في معنى قوله: {فمن شاء فلْيُؤْمِن ومن شاء فلْيكْفُرْ} {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} مرهونة عند الله مصدر كالشكيمة أطلقت للمفعول كالرهن ولو كانت صفة لقيل رهين.
{إِلاّ أصحاب اليمين} فإنهم فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، وقيل هم الملائكة أو الأطفال.
{فِي جنات} لا يكتنه وصفها وهي حال من {أصحاب اليمين}، أو ضميرهم في قوله: {يتساءلون}.
{عنِ المجرمين} أي يسأل بعضهم بعضا أو يسألون غيرهم عن حالهم كقولك: تداعيناه أي دعوناه وقوله: {ما سلككُمْ في سقر} بجوابه حكاية لما جرى بين المسؤولين والمجرمين أجابوا بها.
{قالواْ لمْ نكُ مِن المصلين} الصلاة الواجبة.
{ولمْ نكُ نُطْعِمُ المسكين} أي ما يجب إعطاؤه، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع.
{وكُنّا نخُوضُ} نشرع في الباطل. {مع الخائضين} مع الشارعين فيه.
{وكُنّا نُكذّبُ بِيوْمِ الدين} أخره لتعظيمه أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة.
{حتى أتانا اليقين} الموت ومقدماته.
{فما تنفعُهُمْ شفاعة الشافعين} لو شفعوا لهم جميعا.
{فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} أي معرضين عن التذكرة يعني القرآن، أو ما يعمه و{مُعْرِضِين} حال.
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} شبههم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة.
{فرّتْ مِن قسْورةٍ} أي أسد فعولة من القسر وهو القهر.
{بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان اتبع محمدا.
{كلاّ} ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. {بل لاّ يخافُون الآخرة} فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف.
{كلاّ} ردع عن إعراضهم. {إِنّهُ تذْكِرةٌ} وأي تذكرة.
{فمن شاء ذكرهُ} فمن شاء أن يذكره.
{وما يذْكُرُون إِلاّ أن يشاء الله} ذكرهم أو مشيئتهم كقوله: {وما تشاءون إِلاّ أن يشاء الله} وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله تعالى، وقرأ نافع {تذكّرُون} بالتاء وقرئ بهما مشددا. {هو أهْلُ التقوى} حقيق بأن يتقى عقابه. {وأهْلُ المغفرة} حقيق بأن يغفر لعباده سيما المتقين منهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد عليه الصلاة والسلام وكذب به بمكة شرفها الله تعالى». اهـ.